بعد تحطيم الاتحاد الاشتراكي، سليل الحركة الوطنية، الحزب الوحيد الذي كان يحمل مشروعا وطنيا مستقلا عن المخزن و يضع مصالح الجماهير الشعبية نصب عينيه. بعد فشل كل المنسحبين من الاتحاد في خلق بديل حقيقي يشكل الاستمرارية للمشروع الاتحادي و انا اتساءل عن أسباب الفشل و تحول كل المحاولات إلى قطعان من الانتهازيين الصغار.
أول إشارة التقطها كانت لما بدأ يهاجمني أشخاص لا معرفة لي سابقة بهم بالسب و الشتم و التهديد و بنفس أسلوب الحرب النفسية والمغالطات التي عهدناها من قبل فبدأت ابحث عن خلفياتهم وعن القاسم المشترك بينهم فبدأت تتضح لي الصورة خلف ضباب الصراع و دخان التعتيم، صورة الايادي الاثمة لمنظومة التحكم التي تقف وراء كل المآسي وما قضايا الفساد المطروحة اليوم إلا تحصيل الحاصل لاشتغال هذه المنظومة المتخلفة و المرتبطة بالريع والأعيان و بالاقتصاد الاسود الموازي. هذه البنية المتجذرة بالعالم القروي التي تعيق أي مشروع للتحديث والتنمية الاجتماعية للمغرب غير النافع و التي تدعم تواجدها بالوسط الحضري عن طريق تكريس الهشاشة و توفير و تأطير جيش من الناخبين المهمشين المخدرين من ذوي الأنشطة الاقتصادية غير المهيكلة و ربما غير قانونية تحت سيطرتهم و رعايتهم و يكفي النظر الى الصعوبات التي تعرفها التغطية الصحية الإجبارية التي تحمل بصمات مكرهم و مهنيتهم الخبيثة.
خلق تعيين البوليتكنيكيين بوزارة الداخلية، و منهم اصدقاء نزهاء أبناء الشعب يمتلكون تجربة مهمة في تسيير مقاولات، انتظارات كبيرة و امالا في تطوير الادارة المغربية رغم انهم كانوا يفتقدون للتجربة السياسية وكان "مسامر المائدة" ينتظرونهم بمكر و بالسخرية من محاولاتهم تغيير الأمر الواقع و التقاليد المخزنية و عوض ان يغيروا الوزارة يطوروا أساليب العمل تم الالتفاف على كل مشاريعهم و ادخالهم (مسيد السي ادريس).
فلا هم قادوا مشاريع تكنولوجية مبدعة و مهيكلة و لاهم يمتلكون تجربة عملية واقعية فتم التلاعب بهم من طرف النسق التقليدي المخزني الذي ارعبهم و ابتزهم بمعرفته بدار المخزن و بالمؤامرات الماكرة التي يحبكها بمهارة "مسامر المائدة" و فأصبح البولتكنيكيون يدبرون اليومي و ينتظرون نهاية خدمتهم بخير للوصول إلى التقاعد بدون اضرار فكان الضياع مضاعفا فلا المواطنين وجدوا مخاطبا يفهمهم و يحل مشاكلهم و لا الدولة استفادت من كفاءة مثل هذه الأطر الهندسية العليا التي أنجزت بفرنسا مشاريع متقدمة تعتبر فخر فرنسا الاقتصادية و العسكرية مثل الكونكورد و الرافال والمفاعلات النووية و …
يمكن اعتبار أن أكبر فشل للبولتكنيكيين المغاربة هو عجزهم عن قيادة مشاريع تكنولوجيا متقدمة مهيكلة و اولها منظومة معلومات من الجيل الرابع التي تدمج الهوية الرقمية البيومترية التي تستعمل الحمض النووي و تؤمن هوية كل مواطن مغربي من لحظة ولادته الى وفاته و تمكن من التعرف عليه خلال الكوارث و تمكن الإدارات الأخرى من تتبع كل نشاطاته الاقتصادية والاجتماعية دون أي لبس و تحمي الجنسية المغربية من أي اختراق خارجي أو مافيوزي. كما أن الفشل الثاني هو عجزهم عن تطويق منظومة الريع بتأسيس منظومة مساعدة اجتماعية شمولية مثل ما عند الدول الغربية بتوحيد الأعمال الاجتماعية الموزعة فئويا و قطاعيا التي تعتبر من قلاع الريع عوض أن يشكل التضامن الاجتماعي الجامع لكل الفئات عصب التماسك الوطني. كما كانت منظومة المعلومات هاته ستمكن من تكوين صورة واقعية، دقيقة و محينة لكل الموارد و البنيات التحتية المحلية لتسهيل تصور وصياغة مشاريع تنموية مستدامة مدعومة بمنظومة مالية محلية … كما ان الفشل الثالث يمكن اعتباره الفشل في تفعيل المفهوم الجديد للسلطة و تصور الية لقياس جودة كل الخدمات المقدمة للمواطنين مركزيا و جهويا و محليا وقياس مدى رضاهم او سخطهم ….
الخلاصة أن البوليتكنيكيين بوزارة الداخلية بعد أن فشلوا فشلا ذريعا و أصبحوا لعبة بأيدي الإدارة الترابية و الشؤون العامة التي عوضا أن تلعب دورا أساسيا في،التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و المجالية بقيت أداة أمنية متخلفة متحالفة مع الأعيان تكرس الريع و تعيق انطلاق المغرب و رفعه تحديات العولمة والعالم المفتوح و تهدد استقراره و استقلاليته عن التأثيرات الخارجية. فما هي هذه الالية التي هزمت كبار العقول من احسن مدرسة فرنسية و ركعت كل الاحزاب المغربية و قادتها فأصبحوا رهن اشارة الادارة الترابية ينتظرون ان تتكرم عليهم بمقعد برلماني او رئاسة جهة او جماعة او مجلس اقليمي و بالنسبة للبيادق الصغرى فأكبر تمنياتهم هو ان يصلوا الى موقع مستشار جماعي او مكتب حزبي او جمعوي محلي.
لا يمكن إنكار أن وزارة الداخلية عرفت تقدما كبيرا خلال القرن الماضي بمبادرات سياسية اتخذت على اعلى مستوى بعد انتفاضة يونيو 1981 منها التقسيم الولائي، المجالي، المخططات المديرية، أخيرا اللامركزية و اللاتمركز في نهاية الثمانينات و ان كانت بنظام عتيق محليا. وكان المفهوم الجديد للسلطة مع بداية العهد الجديد سيحدث نقلة نوعية حضارية عملاقة لو تم تفعيله …ولكن اليوم بعد توالي الفضائح لا بد ان نتساءل عن العجز الدائم في تسيير ناجع و فعال للجماعات الترابية والمجالس الاقليمية و الجهوية. ما سر قوة و تغول الفساد و اختراق المافيات للمنظومات المحلية و الإقليمية و الجهوية و كيف تم اغتصاب الجماعات المحلية و صلاحيات اجهزة اخرى و كيف تحاصر المواطنين تحصي أنفاسهم و تخنقهم وربما تستعبد المستضعفين منهم. و كيف ازدادت سلطتها قانونيا؟
الجواب الاساسي هو الصلاحيات المخولة للادارة الترابية بيد المقدمين و الشيوخ الذين لا يعتبرون موظفين و يلعبون دورا امنيا و يتمتعون باستقلالية كبيرة تجعلهم يتجاوزون سلطة القائد المكلف بهم واختصاصاتهم تتقاطع مع اختصاصات الكثير من الوزارات الاخرى و تعطيهم قوة لا يمكن مقاومتها من طرف اي كان و منها للاستئناس لا الحصر:
- *التحكم في الربط بالماء و الكهرباء
- *شهادة السكنى
- *شهادة الخلق بالوسط القروي
- *شهادة الحياة
- *شهادة العزوبة
- *الشرطة الادارية
- *شهادة الاحتياج
- *الراميد و الامو
- *التأمين الفلاحي
- *رخص حفر الابار
- *رخص البناء و الإصلاح
- *رخص الحفلات و المآتم
- *رخص و مأذونيات النقل…
- *الاستخبارات و متابعة نشاطات المواطنين
- *رخص فتح المحلات التجارية
- *الباعة المتجولون و حراس السيلرات والعمارات
- *تتبع وضبط مروجي المخدرات و دور الدعارة و أشياء أخرى
- *منح جوازات السفر
- *الشرطة الإدارية و تسجيل المخالفات
- *ضبط مخالفات البناء و التعمير و هدم البيوت
- *منح الكثير من الامتيازات بالفضاءات العمومية
- *العين على الجمعيات الشبابية و الرياضية و غيرها
و خلاصة القول ان هذه السلط المهولة بيد هذه الالية مكنتها من التحكم في عدد كبير من الناخبين تجلت مثلا في رخص البناء و مخططات التعمير و لا تنسوا انه بالنسبة للمواطن البسيط في الأحياء الفقيرة تعتبر شهادة السكنى و الربط بالماء و الكهرباء من الصعوبة بمكان و تشكل أداة ضغط رهيبة على كاهلهم فيصبحون أداة انتخابية طيعة في يد من يتحكم في الكثير من مصالحهم. أما في المجال القروي فتقدم كبار الملاك والاعيان لرئاسة الجماعات الترابية يمكن هذه الالية التحكمية من موارد مالية و عينية لا تقدر بثمن و تنتج ثقافة ريعية مهيمنة ترفض محاربة تبييض الأموال و الاغتناء اللامشروع.
السؤال الآن هو كيف انتقلت هذه الثقافة الى الأحزاب الوطنية العريقة و تحكمت بها.؟ الجواب من السهولة بمكان فتم ذلك على ثلاثة مراحل في ظل غياب بوصلة أخلاق سياسية:
المرحلة الأولى تمت مع بداية الثمانينات بعد ان تم رفع عدد المستشارين الجماعيين إلى نواحي عشرون الف وتم إغراق المجالس الوطنية للأحزاب والنقابات بهؤلاء المستشارين الجماعيين الذين ساعدتهم الية التحكم على الوصول للمقاعد و ساعدتهم على نيل الكثير من الامتيازات فأصبحوا بدون مشروع سياسي بثقافة قطيع يدين بالولاء لولي نعمته.
المرحلة الثانية بدأت مع بداية الألفية وكان هدفها تدمير القيادات الوطنية الكاريزمية ذات المشروعية التاريخية والنضالية التي تحمل مشروعا مجتمعيا و سياسيا اخر و تم عزلها عن القواعد و تغيير البناء التنظيمي السياسي و النقابي و الجمعوي بتصفية اللجان الادارية و المركزية التي كانت تتشكل من قيادات الصف الثاني وتم تعويضها بمجالس وطنية تتغير تشكيلتها كل دورة بعد اغراقها بقطيع المستشارين الجماعيين الذين يدينون بالولاء لأولياء نعمتهم من الية التحكم
المرحلة الثالثة هي ما نعرفه اليوم(انتشار السرطان في كل مكان) بعد ان انتشر الفساد و تقوت المافيا و سقط الزعماء التاريخيين فأصبحت التزكيات تباع و ارتبطت المافيا المحلية بالمافيا الدولية المحكمة التنظيم و اصبح كل شيء يباع و يشرعن في مؤسسات لا نعرف مدى اختراقها…
أشد ما أخشى أن يكون الاوان قد فات عن كل اصلاح فلما ينتشر السرطان في كل الأعضاء يصعب تطويقه و لجمه فقد تغول وهو يخضع و يذل الجميع. لقد تم تحطيم المقاومين وابنائهم وإهانتهم فاصبحوا اضحوكة يتنذر بها أبناء الخونة المرتزقة الخانعين. فمن سيضحي اليوم بحياته و بمصالحه من أجل وطن لا يعرف إلا قيمة المال و الغدر و البلطجة و الخنوع…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق