تقديم مدرسة نوبير الاموي

من محاكمته على خلفية استجواب البايس و مطالبته بملك يسود و لا يحكم مع الاساتذة الاجلاء المرحومين الصبري و بوزبع و الاستاذ طبيح اطال الله عمره...

الجمعة، 27 يونيو 2025

الإشكاليات الثقافية في المجتمعات المعاصرة: قراءة تحليلية في ضوء التحولات العالمي

 


الإشكاليات الثقافية في المجتمعات المعاصرة: قراءة تحليلية في ضوء التحولات العالمي

مقدمة

تواجه المجتمعات المعاصرة، لا سيما في العالم الاسلامي، تحديات ثقافية متعددة تعكس التحولات العميقة التي مست بنيتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فقد أصبحت الثقافة اليوم مجالًا للصراع والتفاوض، لا فقط على مستوى الهوية، بل أيضًا على مستوى القيم، والمعرفة، والسلطة، والتمثلات. هذا المقال يروم تقديم جرد تحليلي للإشكاليات الثقافية الأساسية، مع محاولة ربطها بسياقها العام، وقراءتها في ضوء رهانات الانتقال إلى مجتمع المعرفة.

1. إشكالية الهوية الثقافية: بين الأصالة والمعاصرة

تُعد الهوية الثقافية من أكثر القضايا إلحاحًا في المجتمعات التي تعرف تحولات سريعة. فالأفراد والجماعات يعيشون صراعًا بين التمسك بالأصالة والتراث، والانفتاح على الحداثة. هذا الصراع يتجلى في ازدواجية لغوية وثقافية، وفي قلق وجودي حول من نكون؟ وما الذي يجب أن نظل عليه؟ وفي ظل العولمة، أصبح الانتماء الثقافي مهددًا بالذوبان داخل أنماط معولمة تُهمش الخصوصيات المحلية.

2. إشكالية القيم والمعايير في زمن السيولة

تشهد المجتمعات تراجعًا في المرجعيات القيمية التقليدية، مقابل صعود قيم استهلاكية وفردانية. لقد أدى هذا التحول إلى ما يسميه البعض بـ"أزمة القيم"، حيث يجد الأفراد أنفسهم في فراغ أخلاقي، بين ما تربوا عليه، وما يفرضه الواقع الجديد. كما أن الحرية الفردية أصبحت محل جدل دائم، خاصة في المجتمعات المحافظة التي لم تحسم بعد علاقتها بالحداثة.

3. إشكالية التعددية الثقافية والتعايش

في مجتمعات متعددة الانتماءات (عرقية، لغوية، دينية)، تطرح مسألة التعددية الثقافية تحديات جوهرية: كيف نؤسس لمجتمع واحد بهويات متعددة؟ هل نكتفي بالتسامح، أم ننتقل إلى الاعتراف الحقيقي بالآخر؟ الواقع يكشف عن وجود سياسات إقصاء ثقافي، وعن خطاب عنصري أحيانًا، يُقوّض إمكانيات التعايش الفعلي.

4. إشكالية المعرفة والسلطة

ترتبط الثقافة ارتباطًا وثيقًا بالمعرفة، لكنها ليست بريئة من السلطة. إذ تُستخدم الثقافة أحيانًا كأداة للهيمنة، سواء عبر التحكم في المحتوى التعليمي، أو عبر احتكار إنتاج المعرفة. وما تزال أغلب دول الجنوب تستهلك معرفةً تنتجها مراكز غربية، دون أن تكون لها سيادة معرفية حقيقية. وهنا يطرح السؤال: هل نملك القدرة على إنتاج معرفة من داخل ثقافتنا وبشروطنا الخاصة؟

5. إشكالية العولمة الثقافية: خطر الذوبان

لقد أدت العولمة إلى تعميم أنماط ثقافية غربية عبر وسائط الإعلام والتكنولوجيا، ما أدى إلى طمس تدريجي للثقافات المحلية. التسليع الثقافي، وهيمنة العلامات التجارية العالمية، وانتشار "ثقافة الترفيه السطحي"، كلها مؤشرات على تآكل الهويات الثقافية. وفي المقابل، تعاني الثقافات المحلية من ضعف الترويج والتحديث، ما يكرّس تبعيتها.

6. إشكالية المثقف: غياب الدور الريادي

لم يعد المثقف في العالم العربي يلعب الدور التاريخي الذي عرفته فترات الاستقلال وبناء الدولة الوطنية. فقد انسحب العديد منهم إلى الهامش، أو تورطوا في خطاب نخبوي بعيد عن هموم الناس. البعض الآخر استُخدم كواجهة تجميلية للسلطة. هكذا، أُفرغ الفعل الثقافي من بُعده النقدي والتغييري.

7. إشكالية السياسات الثقافية: غياب الرؤية

تعاني السياسات الثقافية في العديد من البلدان من غياب الاستراتيجية، وتهميش الثقافة في السياسات العمومية. الثقافة تُعامل كترف، لا كرافعة تنموية. كما أن المؤسسات الثقافية تعاني من البيروقراطية والارتجال، في غياب التمويل والتمكين. ويغيب الاستثمار في الفنون والآداب، والتكوين المهني في المجال الثقافي، ما يعيق تطور الفعل الثقافي المستدام.

8. إشكالية الإعلام وصناعة الذوق

أدى تطور وسائل الإعلام إلى تحوّل كبير في العلاقة مع الثقافة. فقد سادت ثقافة "الفرجة"، وتم تهميش المحتوى الجاد والعميق. أصبح الإعلام يروّج للتفاهة والنجومية السطحية، ما يساهم في إعادة تشكيل الذوق العام بشكل يهدد القيم الثقافية الأصيلة. كما أن خوارزميات وسائل التواصل تكرس ثقافة الاستهلاك اللحظي، لا التأمل والتفكير.

9. إشكالية التعليم والثقافة: القطيعة الخطرة

من أخطر الإشكاليات الثقافية في العالم العربي انفصال التعليم عن الثقافة. فالمؤسسات التعليمية نادرًا ما تساهم في بناء وعي ثقافي نقدي، بل تُعيد إنتاج التلقين والخضوع. كما أن تهميش العلوم الإنسانية والفنون في المنظومة التعليمية يعمق الأزمة. فلا وجود لمشروع ثقافي تربوي يُنمي الحس الجمالي والخيال والتفكير المستقل.

10. إشكالية الذاكرة والتاريخ: الغائب الحاضر

تشهد الذاكرة الثقافية أزمة مزدوجة: من جهة، محاولات طمس أو تزوير الماضي، ومن جهة أخرى، ضعف الوعي التاريخي لدى الأجيال الجديدة. هذا الانفصال عن الذاكرة يُفقد المجتمعات توازنها ويجعلها عرضة لإعادة إنتاج نفس الأخطاء. فالتراث يُختزل أحيانًا في الفولكلور، ويُستعمل في الصراعات السياسية أكثر مما يُوظف في البناء الحضاري.

خاتمة: نحو تجاوز الإشكاليات في أفق مجتمع المعرفة

إن تجاوز هذه الإشكاليات لا يتم عبر حلول تقنية أو خطابات دعائية، بل عبر بلورة مشروع ثقافي شامل يُعيد الاعتبار للإنسان، ويجعل الثقافة في قلب التنمية. ويتطلب ذلك:

  • سياسات ثقافية وطنية مستقلة ومفتوحة

  • إصلاح التعليم وربطه بالثقافة والفكر النقدي

  • دعم حرية التعبير والفنون

  • دمقرطة الفعل الثقافي

  • ترسيخ ثقافة الحوار والتعدد

  • ربط الثقافة بالتكنولوجيا والمعرفة

ففي زمن تتغير فيه المجتمعات بسرعة، تبقى الثقافة هي الأفق الوحيد للحفاظ على المعنى، وبناء مستقبل يليق بالإنسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صورة لها تاريخ

صورة لها تاريخ