الذل والشماتة في الثقافة المغربية: قراءة ثقافية اجتماعية
مقدمة
تحتل مفاهيم الذلّ والشماتة مكانة بارزة في الثقافة المغربية، إذ لا تُفهم فقط كمجرد مواقف فردية أو سلوكات اجتماعية، بل هي محمولة بثقل تاريخي، ومعانٍ رمزية، وتعبيرات لغوية ومواقف جماعية. فالمغاربة، مثل سائر شعوب المنطقة، يقيّمون الكرامة والعزة، ويحذرون من الذل والمهانة، ويخشون الشماتة لما فيها من انتقاص للهيبة ومكانة الفرد داخل الجماعة.
أولًا: معنى الذل في السياق المغربي
1. الذل لغةً وثقافةً
الذلّ لغةً يعني الخضوع والانكسار والمهانة، ويقابله العز والكرامة. أما في الثقافة المغربية، فالذلّ يرتبط ارتباطًا مباشرًا بفقدان "الوجه" أو "الحشمة"، وهما مفهومان مركزيان في تقييم سلوك الأفراد داخل المجتمع.
2. الذلّ في العلاقات اليومية
يُنظر إلى الشخص "الذليل" في المجتمع المغربي بوصفه شخصًا فقد ماء وجهه أو "داير ما يستاهلش"، أي ارتضى لنفسه مواقف فيها تنازل أو خضوع دون مبرر أخلاقي أو اجتماعي. ومن الأمثلة:
-
شخص يقبل الإهانة من أجل المال: يُقال عنه "باع وجهو بفرنك".
-
من يُهين نفسه طمعًا في منفعة: "كيمسح الكابة باش ياكل".
-
من يتحمّل الظلم دون أن يُدافع عن نفسه: "ساكت على الذل، كيشرب المرّ و ساكت".
3. الذل بين الأفراد والسلطة
في العلاقة مع السلطة أو المسؤولين، يظهر الذل في صور مثل التملق المبالغ فيه أو السكوت عن الظلم، ويُعبّر عنه بالدارجة بعبارات مثل:
-
"كيتزلف" أو "كيمسح ليهم الصباط".
-
"كيحني الراس بزّاف حتى ولى بلا كرامة".
ثانيًا: الشماتة في الثقافة المغربية
1. الشماتة كموقف اجتماعي
الشماتة هي الفرح بمصيبة الآخر، وهي سلوك مذموم دينيًا وأخلاقيًا، ومع ذلك توجد لها تجليات عديدة في الواقع المغربي. يُنظر إلى "الشامت" كعديم المروءة، و"لي ما فيه خير"، وغالبًا ما يتعرّض هو الآخر للشماتة في لحظة ما.
2. الشماتة في العلاقات الاجتماعية
من الأمثلة الواقعية:
-
عند وقوع خصم أو جار في ورطة مالية أو مصيبة، يُقال عنه:
"طاح، جات فيه" أو "الله ما يديه غير فهاذ الحالة". -
عند فشل شخص ناجح في حياته، تُقال عبارات مثل:
"كان نافخ راسو، شوف دابا فين وصل".
وهذه العبارات قد تُقال خفية أو علنًا، لكن الهدف منها في الغالب هو تثبيت التفوق الاجتماعي للشامت.
3. الشماتة في وسائل التواصل الاجتماعي
مع انتشار السوشيال ميديا، أصبحت الشماتة تأخذ أشكالًا إلكترونية من خلال:
-
السخرية من سقوط شخصية عامة في فضيحة.
-
تداول أخبار مصائب الناس بتعليقات مليئة بالتهكم.
-
إنشاء "ميمات" و"فيديوهات" تضحك على معاناة الغير.
ثالثًا: الجذور النفسية والاجتماعية للذل والشماتة
1. الخوف من الفضيحة والعيب
المغاربة، كغيرهم من شعوب المنطقة، يعيشون في ثقافة يغلب عليها الضبط الاجتماعي عبر مفهومي "العيب" و"الحشومة". لهذا السبب، يُخاف من الذلّ لأنه يُعد شكلًا من "الفضيحة" الشخصية أو العائلية.
2. قيم "النخوة" و"الرجولة"
في ثقافة يغلب عليها الطابع الذكوري، تعتبر "الرجولة" مرادفًا للكرامة والعزة. لذا، الذلّ يفقد الرجل صفته الاجتماعية كـ"رجل" بمعنى صاحب موقف وقيمة. وهذا ما يجعل الرجل المغربي يخاف من أن يقال عنه: "ماعندو كرامة" أو "مسخوط على راسو".
3. الشماتة كرد فعل على الحسد أو الصراع الطبقي
في بعض الحالات، تكون الشماتة تعبيرًا عن الحسد، أو محاولة لتعويض الفارق الطبقي أو النجاح الشخصي. من خلال الشماتة، يحاول الفرد "الانتقام الرمزي" من شخص كان أعلى منه مكانة أو سلطة.
رابعًا: الذل والشماتة في الأمثال الشعبية
الثقافة المغربية غنية بأمثال شعبية تلخص هذه المفاهيم:
-
"اللي يذلّ راسو، ما يتسماش سيد"
-
"اللّي شمت فخوّيه، ما يسلم من البليّة"
-
"الله ينجيك من شماتة العديان"
-
"اللي ما عندو وجه، ما يهمّو الذل"
-
"طاح، ما شاف حد، جا اللي زاد فيه"
هذه الأمثال تعكس مدى ترسّخ مفهومي الذل والشماتة في الوعي الجمعي.
خامسًا: البُعد الديني في مقاومة الذل والشماتة
الدين الإسلامي يلعب دورًا هامًا في تقييد هذه الظواهر:
-
يقول الرسول ﷺ: "لا تُظهر الشماتة بأخيك، فيرحمه الله ويبتليك".
-
ويُعتبر الذل أمام الظالمين منبوذًا شرعًا، فيما يُمدح من "أعزّ نفسه وأكرمها".
لكن في الممارسة الاجتماعية، كثيرًا ما تتناقض المواقف الفعلية مع هذه القيم الدينية.
خاتمة
تُعد مفاهيم الذل والشماتة من المكونات الثقافية العميقة في المجتمع المغربي، تتقاطع فيها العوامل الاجتماعية والدينية والتاريخية. إنها ليست فقط سلوكات فردية، بل انعكاسات لقيم جماعية تتعلق بالكرامة، والهيبة، ومكانة الفرد داخل الجماعة. ورغم الوعي الأخلاقي والديني بسلبياتها، لا تزال هذه الظواهر حاضرة بقوة في الحياة اليومية، مما يجعل من الضروري فتح نقاش مجتمعي حولها، وبناء ثقافة تحترم كرامة الإنسان، وتنبذ الشماتة والتلذذ بمآسي الآخرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق