تقديم مدرسة نوبير الاموي

من محاكمته على خلفية استجواب البايس و مطالبته بملك يسود و لا يحكم مع الاساتذة الاجلاء المرحومين الصبري و بوزبع و الاستاذ طبيح اطال الله عمره...

الثلاثاء، 8 يوليو 2025

الكتلة التاريخية عند أنطونيو غرامشي: قراءة نقدية للهيمنة والتغيير الاجتماعي

 




الكتلة التاريخية عند أنطونيو غرامشي: قراءة نقدية للهيمنة والتغيير الاجتماعي

المقدمة

أنطونيو غرامشي (1891-1937)، مفكر ماركسي إيطالي ومؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي، جدد بعمق الفكر الماركسي الكلاسيكي من خلال أعماله النظرية، خصوصاً في دفاتر السجن. من بين مفاهيمه الأساسية تبرز نظرية الكتلة التاريخية، وهي مفهوم مركزي لفهم كيف تمارس الطبقة الحاكمة سلطتها وتحافظ عليها في مجتمع معين. تتيح هذه النظرية تحليل علاقات القوة بين الطبقات الاجتماعية مع مراعاة البُنى الاقتصادية، وكذلك البُنى الفوقية السياسية والإيديولوجية والثقافية.

أولاً: سياق نشوء النظرية

كتب غرامشي في سياق تاريخي تميز بفشل الثورات الاشتراكية في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الأولى، على عكس ما حدث في روسيا. وقد حاول فهم السبب وراء عدم تمكن الطبقات الشعبية من إسقاط النظام البرجوازي في الدول الصناعية. هذا التساؤل دفعه لإعادة التفكير في العلاقة بين الاقتصاد والسياسة والثقافة داخل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة.

في هذا السياق، طور مفهوم الكتلة التاريخية، كإجابة على سؤال استقرار الرأسمالية وهيمنة البرجوازية في المجتمعات الغربية.

ثانياً: تعريف الكتلة التاريخية

الكتلة التاريخية هي وحدة جدلية بين البنية التحتية الاقتصادية (الأساس المادي للمجتمع: قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج) والبنية الفوقية (المؤسسات السياسية والقانونية والإيديولوجية والثقافية). يؤكد غرامشي أن هذين المجالين ليسا منفصلين، بل هما مترابطان ارتباطاً وثيقاً ويتبادلان التأثير.

"البنية التحتية والبنية الفوقية تشكلان كتلة تاريخية"، كما كتب غرامشي.

أ. وحدة متماسكة للهيمنة

تشير الكتلة التاريخية إلى تكوين منسجم، في لحظة تاريخية معينة، بين:

  • بنية اقتصادية (مثل النمط الرأسمالي أو الإقطاعي)

  • أشكال سياسية (مثل الدولة الليبرالية أو الاستبدادية أو الدكتاتورية)

  • إيديولوجيات مهيمنة (مثل الدين أو العلم أو القومية)

  • ثقافة مهيمنة تطبع النظام القائم وتجعله يبدو طبيعياً.

هذا التناسق هو ما يسمح للطبقة المسيطرة ببناء هيمنة طويلة الأمد على الطبقات الأخرى.

ثالثاً: دور الهيمنة في الكتلة التاريخية

يشكل مفهوم الهيمنة جوهر نظرية غرامشي للكتلة التاريخية. ويقصد به قدرة طبقة اجتماعية على قيادة المجتمع ليس فقط بالإكراه، بل أيضاً عبر القبول الطوعي، بفرض رؤيتها للعالم كأنها شاملة و"طبيعية".

أ. الهيمنة الثقافية

بحسب غرامشي، لا تحكم الطبقة المسيطرة فقط عبر القوة (الشرطة، الجيش، القوانين)، بل عبر إنتاج القبول لدى المحكومين بواسطة التعليم، الإعلام، الدين، الأسرة، والمثقفين. وهكذا تُنشئ ثقافة مهيمنة تخترق كل شرائح المجتمع وتُضفي شرعية على سلطتها.

فالهيمنة، إذاً، هي ثقافية قبل أن تكون سياسية، وتقوم على القدرة على بناء "الحس المشترك" المقبول من الأغلبية.

ب. المثقف العضوي

عنصر أساسي في هذه الهيمنة هو دور المثقفين العضويين، وهم منتجو الإيديولوجيا في خدمة طبقة اجتماعية. بخلاف "المثقفين التقليديين" الذين يُعتبرون محايدين أو عالميين، يساهم هؤلاء في بناء الإجماع حول هيمنة طبقة معينة.

رابعاً: تحوّل الكتلة التاريخية

الكتلة التاريخية ليست أبدية، ويمكن أن تتعرض للتحدي، خاصة حين تصبح التناقضات بين القاعدة والبنية الفوقية حادة جداً، أو عندما تنجح طبقة صاعدة جديدة في بناء هيمنة بديلة.

أ. أزمة الهيمنة

عندما لا تعود المؤسسات القائمة تلبي حاجات الجماهير، وعندما تفقد الأفكار المهيمنة قدرتها على الإقناع، تظهر أزمة هيمنة. ويمكن أن تفتح هذه الأزمة المجال أمام ثورة بطيئة (تغيير تدريجي دون قطيعة) أو مرحلة ثورية (تغيير جذري للنظام).

ب. تحالف طبقي جديد

لبناء كتلة تاريخية جديدة، يجب على الطبقة الصاعدة (مثل البروليتاريا وفقاً لغرامشي) أن:

  • تُنشئ قاعدة اقتصادية جديدة،

  • تبني تحالفاً بين الطبقات الدنيا (كعمال، فلاحين، مثقفين)،

  • تنتج ثقافة هيمنة جديدة (ثقافة مضادة)،

  • تستولي على الدولة أو تؤسس دولة بديلة.

خامساً: الكتلة التاريخية كأداة تحليلية

تسمح نظرية الكتلة التاريخية بقراءة غير ميكانيكية للماركسية. فهي ترفض فكرة أن "البنية التحتية" تحدد تلقائياً "البنية الفوقية"، بل تؤكد على الوساطة الثقافية والإيديولوجية.

إنها أداة تحليل اجتماعي قوية، يمكن تطبيقها في سياقات مختلفة، مثل:

  • فهم استقرار النيوليبرالية ككتلة تاريخية منذ الثمانينيات،

  • تحليل التحولات الديمقراطية أو الثورات (مثل أمريكا اللاتينية)،

  • تحديد الصراعات الإيديولوجية في التعليم، والإعلام، والدين.

خاتمة

تقدم نظرية الكتلة التاريخية لغرامشي تصوراً معقداً وديناميكياً للسلطة. فهي تُظهر أن السيطرة لا تقوم فقط على القوة، بل أساساً على بناء هيمنة ثقافية مستمرة. وهي تدعو الحركات التقدمية إلى الاستثمار في مجالات الثقافة والتعليم والفكر، من أجل التمهيد لتحول اجتماعي جذري، وليس الاكتفاء بإصلاحات اقتصادية أو مؤسساتية.

ومن خلال هذا المنظور، يذكرنا غرامشي بأن كل تحول اجتماعي حقيقي يبدأ أولاً بـ ثورة في الأفكار والوعي.

الخميس، 3 يوليو 2025

الذل والشماتة في الثقافة المغربية: قراءة ثقافية اجتماعية

الذل والشماتة في الثقافة المغربية: قراءة ثقافية اجتماعية

مقدمة

تحتل مفاهيم الذلّ والشماتة مكانة بارزة في الثقافة المغربية، إذ لا تُفهم فقط كمجرد مواقف فردية أو سلوكات اجتماعية، بل هي محمولة بثقل تاريخي، ومعانٍ رمزية، وتعبيرات لغوية ومواقف جماعية. فالمغاربة، مثل سائر شعوب المنطقة، يقيّمون الكرامة والعزة، ويحذرون من الذل والمهانة، ويخشون الشماتة لما فيها من انتقاص للهيبة ومكانة الفرد داخل الجماعة.

أولًا: معنى الذل في السياق المغربي

1. الذل لغةً وثقافةً

الذلّ لغةً يعني الخضوع والانكسار والمهانة، ويقابله العز والكرامة. أما في الثقافة المغربية، فالذلّ يرتبط ارتباطًا مباشرًا بفقدان "الوجه" أو "الحشمة"، وهما مفهومان مركزيان في تقييم سلوك الأفراد داخل المجتمع.

2. الذلّ في العلاقات اليومية

يُنظر إلى الشخص "الذليل" في المجتمع المغربي بوصفه شخصًا فقد ماء وجهه أو "داير ما يستاهلش"، أي ارتضى لنفسه مواقف فيها تنازل أو خضوع دون مبرر أخلاقي أو اجتماعي. ومن الأمثلة:

  • شخص يقبل الإهانة من أجل المال: يُقال عنه "باع وجهو بفرنك".

  • من يُهين نفسه طمعًا في منفعة: "كيمسح الكابة باش ياكل".

  • من يتحمّل الظلم دون أن يُدافع عن نفسه: "ساكت على الذل، كيشرب المرّ و ساكت".

3. الذل بين الأفراد والسلطة

في العلاقة مع السلطة أو المسؤولين، يظهر الذل في صور مثل التملق المبالغ فيه أو السكوت عن الظلم، ويُعبّر عنه بالدارجة بعبارات مثل:

  • "كيتزلف" أو "كيمسح ليهم الصباط".

  • "كيحني الراس بزّاف حتى ولى بلا كرامة".

ثانيًا: الشماتة في الثقافة المغربية

1. الشماتة كموقف اجتماعي

الشماتة هي الفرح بمصيبة الآخر، وهي سلوك مذموم دينيًا وأخلاقيًا، ومع ذلك توجد لها تجليات عديدة في الواقع المغربي. يُنظر إلى "الشامت" كعديم المروءة، و"لي ما فيه خير"، وغالبًا ما يتعرّض هو الآخر للشماتة في لحظة ما.

2. الشماتة في العلاقات الاجتماعية

من الأمثلة الواقعية:

  • عند وقوع خصم أو جار في ورطة مالية أو مصيبة، يُقال عنه:
    "طاح، جات فيه" أو "الله ما يديه غير فهاذ الحالة".

  • عند فشل شخص ناجح في حياته، تُقال عبارات مثل:
    "كان نافخ راسو، شوف دابا فين وصل".

وهذه العبارات قد تُقال خفية أو علنًا، لكن الهدف منها في الغالب هو تثبيت التفوق الاجتماعي للشامت.

3. الشماتة في وسائل التواصل الاجتماعي

مع انتشار السوشيال ميديا، أصبحت الشماتة تأخذ أشكالًا إلكترونية من خلال:

  • السخرية من سقوط شخصية عامة في فضيحة.

  • تداول أخبار مصائب الناس بتعليقات مليئة بالتهكم.

  • إنشاء "ميمات" و"فيديوهات" تضحك على معاناة الغير.

ثالثًا: الجذور النفسية والاجتماعية للذل والشماتة

1. الخوف من الفضيحة والعيب

المغاربة، كغيرهم من شعوب المنطقة، يعيشون في ثقافة يغلب عليها الضبط الاجتماعي عبر مفهومي "العيب" و"الحشومة". لهذا السبب، يُخاف من الذلّ لأنه يُعد شكلًا من "الفضيحة" الشخصية أو العائلية.

2. قيم "النخوة" و"الرجولة"

في ثقافة يغلب عليها الطابع الذكوري، تعتبر "الرجولة" مرادفًا للكرامة والعزة. لذا، الذلّ يفقد الرجل صفته الاجتماعية كـ"رجل" بمعنى صاحب موقف وقيمة. وهذا ما يجعل الرجل المغربي يخاف من أن يقال عنه: "ماعندو كرامة" أو "مسخوط على راسو".

3. الشماتة كرد فعل على الحسد أو الصراع الطبقي

في بعض الحالات، تكون الشماتة تعبيرًا عن الحسد، أو محاولة لتعويض الفارق الطبقي أو النجاح الشخصي. من خلال الشماتة، يحاول الفرد "الانتقام الرمزي" من شخص كان أعلى منه مكانة أو سلطة.

رابعًا: الذل والشماتة في الأمثال الشعبية

الثقافة المغربية غنية بأمثال شعبية تلخص هذه المفاهيم:

  • "اللي يذلّ راسو، ما يتسماش سيد"

  • "اللّي شمت فخوّيه، ما يسلم من البليّة"

  • "الله ينجيك من شماتة العديان"

  • "اللي ما عندو وجه، ما يهمّو الذل"

  • "طاح، ما شاف حد، جا اللي زاد فيه"

هذه الأمثال تعكس مدى ترسّخ مفهومي الذل والشماتة في الوعي الجمعي.

خامسًا: البُعد الديني في مقاومة الذل والشماتة

الدين الإسلامي يلعب دورًا هامًا في تقييد هذه الظواهر:

  • يقول الرسول ﷺ: "لا تُظهر الشماتة بأخيك، فيرحمه الله ويبتليك".

  • ويُعتبر الذل أمام الظالمين منبوذًا شرعًا، فيما يُمدح من "أعزّ نفسه وأكرمها".

لكن في الممارسة الاجتماعية، كثيرًا ما تتناقض المواقف الفعلية مع هذه القيم الدينية.

خاتمة

تُعد مفاهيم الذل والشماتة من المكونات الثقافية العميقة في المجتمع المغربي، تتقاطع فيها العوامل الاجتماعية والدينية والتاريخية. إنها ليست فقط سلوكات فردية، بل انعكاسات لقيم جماعية تتعلق بالكرامة، والهيبة، ومكانة الفرد داخل الجماعة. ورغم الوعي الأخلاقي والديني بسلبياتها، لا تزال هذه الظواهر حاضرة بقوة في الحياة اليومية، مما يجعل من الضروري فتح نقاش مجتمعي حولها، وبناء ثقافة تحترم كرامة الإنسان، وتنبذ الشماتة والتلذذ بمآسي الآخرين.


صورة لها تاريخ

صورة لها تاريخ